الحقيقة الوحيدة
كانت تسير وحدها خائفة مضطربة في ذلك الطريق ذو التفرعات الكثيرة بخطىً متثاقلة مسرعة تارة .. متباطئة تارة اخرى
ترمق ما حولها بنظرات تائهة فارغة من اي معنى او تعبير .. وكأنها فاقدة ٌ للذاكرة وكل ما حولها لا يمثل لها شيئاً ولا يعطيها شيئاً من الإحساس والشعور لدرجة اصبحت معها ترى ...ابتسامة طفل وليد .. لا تكاد تختلف عن دمعةٍ تذرف على موت شهيد ..
ترى .. هل هي فعلاً فقدت ذاكرتها المتعبة ام ان كثرة الألم قد خلف في نفسها ما هو أكثر من الألم فغدت كل الأشياء بالنسبة لها سواء ...لدرجةٍ انه لم يعد هناك اي شيء يحرك في داخلها اي شيئ....
جلست عذرائي جاثية على ركبتيها تردد .. ترى ماالذي جاء بي الى هنا ... ماالذي جاء بي إلى هنا .. يقيت تردد تلك العبارة بصوت يتعالى اكثر واكثر ...ليبدأ بعدها المطر بالهطول ....فيُخيلُ اليها بأن عينيها هما اللتين ذرفتا كل هذه الدموع وليست عينا السماء...
مرت الدقائق ..الساعات ... وهي لاتزال على ركبتيها جاثية .. تنظر إلى صورة وجهها المنعكسة على سطح صفحة المياه الهاطلة على الأرض ..ولكن من هي تلك التي تراها ...لا يمكن ان تكون هذه هي صورة وجهها الذي ألفته ... تلك العينان المنكسرتان لا يمكن لهما ان تكونا نفس العينان الأبيَّتان الثائرتان ...وتلك الشفتان المتشققتان يستحيل ان تكونا نفس الشفتين الشهيتين المتضرجتين بحمرة الدم والمتحدِّيتين بنعومتهما خدود الزهر..
امَّا خُصل الشعر المتساقطة اليابسة كأغصان الزيتون المحترقة لا يمكن لهما أن تكون نفس تلك الضفائر الذهبية التي غطت يوماً ما ظهر صبية تضجُّ بالحياة .. تلك الأصابع ...الأيدي...الأرجل.... كل شيئ .. كل شيئ ...لا يمكن ان تكون هذه الصورة لي ...
اااااه هل تراني نسيت حتى صورة نفسي .. و أين هي ذاكرتي الحقيقية ... هل ما انا فيه هو ذاكرتي الحقيقية وكل ما يتصل بتلك الصبية الجميلة مجرد صورة لما كنت اتمنى ان أكون عليه....أم أنا فعلاً تلك الصبية .. وكل ما أنا فيه لا يتعدى ان يكون مجرد حلم .. ..ومخاوف مزعجة لا اكثر ولا أقل ....
هي لحظة نقف فيها أحياناً عاجزين حائرين بين الذي كان ... وبين ما قد يكون ....لحظة حائرة نقف فيها في منتصف الطريق
بين الحلم والواقع. ... بين الحقيقية والخيال ... ربما تكون هي لحظة المحاسبة التي نخشى ان نقفها مع انفسنا
...لأننا نخشى من المواجهة...ونخشى ان نرى أنفسنا وجهاً لوجه امام فشلنا ...كما هو دون منكهات او مجملات ...او عبارات منمقة تتكرر على مسامعنا.. وتصور الفشل على أنه طريق النجاح .. وغير ذلك من العبارات التي نعزِّي بها انفسنا دائماً عندما نقع بين فكيه...
نهضت عذرائي من على ذلك الرصيف ولا تكاد ركبتاها تقويان على حملها ... والبلل يتساقط من اطراف ثوبها القرمزي ..اقتربت من الشارع .. وغمامة رماديه تطوِّق قلبها قبل عينيها ...وبلحظة خاطفة كالبرق..تطايرت خصلات ذلك الشعر الذهبي ... وتبعثرت الأساور الذهبية المحيطة بالمعصم الرقيق الندي ...وسالت دماء دافئة ..على الوجنتين الحمراوتين ..
لحظة خاطفة من سيارة مسرعة ...خلصتها من كل ما كانت فيه من حيرة.. ووضعتها امام الحقيقة التي لا يمكن لأحد ان يحار او يختلف في أمرها ..ألا وهي حقيقة الموت ...

نعم .. هي الحقيقة الوحيدة والأكيدة .. ولكنها بداية الطريق إلى لقاء الله عزّ وجلّ .. وما أحلاه من لقاء! ... هذا اللقاء يحلمُ فيه كل مؤمن .. مثلما أحلم فيه الآن ... وأبتسم .. مثل ابتسامة "الشهيد" ... .. زوجك محمود
ردحذف