الأربعاء، 28 سبتمبر 2011

وليـمة نســاء


أذكر ذلك اليوم تماماً الذي كنت أودع فيه بلدي .. وكأني أودعها الوداع الأخير .. 
ااه كم هو صعب أن نرفض من داخلنا وطناً احتضننا .. وأرضاً أنبتتنا ..
في ذلك اليوم كنت أسير إلى ذلك المنزل .. الذي من المفترض أن يكون جامعاً لكل من أحببتهم  .. والذين أرادوا أن يحتفوا بي  .. ويودعوني .. 
نزلت من السيارة .. والصراخ المحتد بين أعز من لي في هذا الكون يملؤ أذني ... شعرت حينها برغبة كبيرة في الهرب والفرار .. الفرار إلى أي بقعة من هذا الكون تمنحني الأمان الذي عشت أعوامي الخمس والعشرين و أنا أطارده .. ولكنه يأبى دائماً أن يحيا معي .. أن يسكن داخلي ...
نزلت من السيارة وأسرعت الخطى هاربةً ... ودمعات القهر والحزن تنزف من عيوني ...
لحقت بي والدتي .. نظرت إلى وجهها لأرى نفس التعابير ونفس الدمعات مرسومة على ملامحها .. 
وصلنا اإلى ذلك المنزل ودخلنا ...
كانت الأهازيج تملؤ المكان ..
وعدد كبير من النساء قد اجتمعن يرقصن ويغنين .. وألوان الفرح تلف حولهن .. كما يلف قوس قزح سماء يوم ٍ ربيعي جميل ..
جلست بينهن ... أحبطني فرحهن .. وهز جوارحي صخبهن  ... ورقصهن ... 
مرت دقائق ثقيلة على نفسي ... شعرت بها .. بأنني وحيدة في هذا العالم .. برغم كل من حولي ... 
وحيدة بإحساسي ... وحيدة بمشاعري ... وحيدة بآلامي .. بإحباطاتي ...بانكساراتي .. بكل شيئ .. كل شيئ .. 
شعرت بأنني لا أنتمي ...إلى كل من حولي ..بالرغم من صلة القرابة ... وصلة الدم ...
قي غمرة هذا الشعور ..دخلت والدتي ... مرتدية قناعاً مبتسماً هادئاً .. راضياً ...
لتشارك من حولي ذلك الفرح  .. وذلك الصخب المبالغ فيه ..
تلك اللحظة ... انتابتني رغبة ملحة بالبكاء ... فأنا أدري تماماً حال والدتي ... من الداخل والخارج ... 
لأنها ومنذ دقائق قليلة كانت تعاني ما أعانيه .. وكان حالها شقيق حالي ... 
ولكنها وبخلال دقائق قليلة استطاعت أن تخفي كل هذا خلف قناع ٍ من الابتسام واللامبالاة ..
ربما كانت هي أكثر قوة  و صلابة مني  وربما كانت أكثر عقلانية مني ... لأنها ستطاعت وبدقائق قليلة ان تفعل ما عجزت عنه طوال عمري ...  
ولكن .. وعند هذا المشهد شعرت بأن كل من حولي من نساء ارتدين أقنعةً تماماً كما فعلت أمي ... 
وبأن هذا الصخب المبالغ فيه ... ما هو إلا تعبيراً عن الألم الذي يسكن كل واحدةٍ منهن ... 
ليخيل إلي بأني في وليمة كبرى ... تقدَّم فيها النساء ولائم شهية .... على مأدبة الحياة ...
اشتدت الموسيقا .. من حولي .. لتزداد النساء
من حولي رقصاً وانتشاءً ... 
وكأنهن يرقصن من نشوة الألم ... 
وكلما ازددن انتشاءً ... ازددت أنا ألماً وبكاءً ....على ذلك المقعد الذي اخترته في جانب الغرفة ...
ظنوا حينها أن دمعاتي الغزيرة ماهي إلا دمعات فرح ... ولم يدروا بأني كنت أرثيهم ... أرثي أمي .. وأرثي نفسي ..
بكيت وبكيت بكاءً مراً جعلني أهرع من ذلك المنزل ... وذلك الوطن  إلى ذلك المطار ..... ومنه .. إلى ذلك الصدر الذي لم أشعر يوماً بالأمان إلا وأنا عليه ... الى صدر حبيبي ... وزوجي ..وإلى بلدٍ آخر غير بلدي ...علِّي أخرج من دائرة الأحزان التي تلاحقني   وأجد ذاتي التي رفض وطني منحي إياها ... 
وهاأنا الآن ما زلت أحيا على ذلك الأمل ... ولكن ..  لابد للغمامة من أن تنجلي ..
لا بد للغمامة من أن تنجلي ....
صحرا ......

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حكاية اللون الأبيض .. ذهبت إلى ذلك المقهى .. واتجهت إلى تلك الطاولة المركونة .. في إحدى جوانبه المهملة .. حيث تشبه في انزو...