صور من المجتمع

 خجلى .. خجلى ..._1_

الصورة الأولى ..
فتاة .. صغيرة . تبلغ من العمر 10 سنوات .. تعودت .. أو بالأصح عودتها والدتها .. بأنها يجب أن تجلس
بطريقة معينة ..تتصرف بطريقة معينة كونها فتاة وليست صبيا ..
كانت تقف دائما على نافذة المنزل .. لترقب من بعيد أخواها .. كيف يلعبان .. يقفزان .. يركضان ..
بالشارع مع بقية الصبية .. لتشعر نفسها .. وكأنها عصفورة صغيرة تضرب جناحيها في قفص ..
ذات مرة ..  جذبها شكل الكرة التي تتدحرج بين أقدام الصبية ..
أحبت أن تختبر ذلك الشعور الذي يحس به الإنسان عندما تلامس قطعة مطاطية دائرية .. قدميه .. وتتدحرج بركلة منهما
نزلت بطلتنا إلى الشارع ..ركضت نحو الصبية .. امسكت بالكرة ..


ليقول أحدهم مستهزئاً ابتعدي يا فتاة .. الكرة للرجال أمثالنا وليست للفتيات الصغيرات مثلك ..
لم تعبأ بسخريته.. ركلت الكرة .. بقدمها الصغيرة .. فدارت الكرة حولها دون أن تبتعد .. لتسمع بعدها قهقهات وسخريات ..
تقدم أحد الصبية إليها وقالوا إبتعدي .. لم ينقصنا سوى الفتيات ..
كانت كلمته عليها قاسية .. مدمرة دون أن يدري ..
بدأت دمعة حارة .. تلمع في مقلتها .. لتسقط .. متدحرجة على خدها .. الناعم ..
إلتفت إلى الوراء .. وعادت أدراجها إلى المنزل .. .. ودمعاتها تسابق خطواتها .. وحمرة الخجل .. تعلو وجنتيها ..
وقفت أمام المنزل لتستقبلها والدتها .. بالتوبيخ ... أين كنت .. كيف تخرجين وحدك من المنزل ..
أجابت ببراءة .. لفد أحببت أن أجرب الكرة .. مع أخي ..
أجابت الأم .. هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي أسمح لك فيها القيام بهذا التصرف والنزول إلى الشارع ..
أجابت الفتاة .. لماذا يا أمي .. إن أخي ينزل كل يوم إلى الشارع ليلعب مع أصدقائه ..
أجابت الأم .. أنت فتاة .. وأخوك صبي .. والفتاة ليست كالصبي ..

ماذا تقصدين يا أمي ؟؟
أجابت الأم
..
لا شيئ .. عمدما تكبرين .. ستفهمين ما أقصد ..
دخلت الفتاة الصغيرة غرفتها .. وأسئلة كثيرة تدور في ذهنها ..
مامعنى أن أكون فتاة .. لماذاسخر مني الصبيان .. لما نعتوني بالفتاة ؟؟ هل أنا غير جيدة .. لأنني فتاة ..
 لماذا غضبت أمي عند مغادرتي المنزل .. ولماذا تفرح عندما يغادر أخي المنزل وتقول له .. أنت رجل البيت ..
لما عندما غادرت المنزل مثل أخي .. لم تقل لي بأنني رجل المنزل ..
لماذا كلما أجلس بحرية .. مثل أخي .. يوبخني والدي ويطلب مني إلصاق قدمي ببعضهم البعض ..
لماذا أشعر بأنني ضعيفة .. لماذا لا يعلمني أبي القوة والإعتزاز بنفسي .. كما يعلم أخي ..
لماذا لا أستطيع الركض في الشارع مثل أخي .. لماذا لا أستطيع ركوب الدراجة مثله .. على الرغم من أن ساقاي أكثر رشاقة من ساقيه ..
أمي قالت لي منذ مدة بأنني يجب علي أن أخفي ضفائري ..
هل هي شيئ غير جميل .. وإذا كانت كذلك .. لماذا لا تدعني أقصها ليصبح شعري قصيرا مثل شعر أخي ..
لماذا ولماذا ولماذ ...
أشعر بأنني إنسان غير مرغوب فيه في هذا البيت .. وربما في هذا العالم كله ..
عندما يروي والدي قصة مجيئي إلى هذا العالم ... يقول بأن الداية أم أحمد خرجت من غرفة الولادة ..
خجلة .. متوترة .. مطأطأة الرأس .. لتقول لوالدي .. بأنني جئت إلى هذا العالم وبأنني فتاة ..
وعندما يروي قصة مجيئ أخي إلى هذا العالم .. يحكي والدي وبفخر كيف أن أم أحمد . نفسها قد خرجت
من غرفة الولادة مرفوعة الرأس وإبتسامة النصر على شفتيها .. طالبة منه الحلوان .. لأنه رزق بصبي .. يشبه القمر ..
ولكنني عندما أنظر إلى المرآة .. أجد بأنني أجمل من أخي ..
إذاً لما ذا لم يفرح بي والدي كفرحته بأخي على الرغم من أنني أجمل منه ..
ولماذا لم يعطي الداية أم أحمد حلواناً كما أعطاها .. عند ولادة أخي ..
هل أنا الفتاة .. شيئ قبيح إلى هذا الحد ..
بدأت أشعر .. بالخجل من نفسي .. لأن الكل ينعتني .. ب فتاة ..أنا حقا خجلى .. خجلى ..
......................................................

الصورة الثانية ..... 


مرت الأعوام والسنوات .. لتبدأ فتاتي تكبر .. وتكبر ..
حاملة معها عبارة .. أنا خجلى .. انا خجلى ..
لتصبح جزءً لا يتجزأ من كيانها ..
كانت في كل مرة تقف فيها أمام المرآة .. تتأمل نفسها .. وترقب تفتح الورد على وجنتيها ..وتستشعر نعومة بشرتها  .. ورقة مبسمها وتلألؤ عينيها ..وهما يبرقان يوماً بعد يوم .. بمعان جديدة لم تدرك لها تفسيراً
ذلك البريق الذي طالما جعلها تقف ساعاتٍ وساعات .. أمام مرآتها .. محاولة قرائته ..ولكن دون جدوى ..
فعمر عينيها .. أكبر من عمر جسدها .. وما نضحت به هاتين العينين كان أكبر من استيعاب فتاة .. لم تكد تخطو بعد .. إلا خطوتها الأولى في عمر أطلق عليه من حولها .. عمر المراهقة ..
ذات يوم كانت جالسة في خلوة مع ذاتها تحاكي نفسها علها تفهم شيئاً عن سر حزنها المفاجئ .. وفرحها المفاجئ  ..
عن مواقفها التي تتبدل شيئاَ فشيئاَ بين الحين والآخر ..
جلست تضرب أخماساً بأسداساً عن سر تلك الفرس الجامحة التي بدأت تكبر في داخلها .. والتي تدفعها للعصيان .. الرغبة في العصيان .. والاستمتاع به ..
وبينما هي جالسة متأملة .. لم تجد إلا يداً اقتربت منها وصفعتها فجأة ً لتعود إلى عالم الواقع .. وتخرج من خلوتها الروحية ..
بعدما كانت هائمة في عوالمها ..
كانت والدتها قد دخلت عليها فجأة .. فوجدتها سارحةً في خيالاتها ..والتي لا تدري أصلاً ما هي .. وما كنهها ..
وجدتها .. سارحةً .. مهملة أعمال المنزل وكي الملابس وتحضير الطعام  لأخيها الذي يعمل ويشقى .. خارج المنزل ليؤمن لقمة العيش التي تجحد هي بها ...
على حد تعبير والدتها ..
_ سارحة !!!! ما شاء الله  هذا ما كان ينقصنا .. تتركين أعمال المنزل وتزدادي كسلاً يوماً بعد يوم .. تجلسين وتسرحين .. ثم تبكين فجأة ً .. وكأنك المظلومة .. ونحن من ظلمك ...
فتاة حمقاء .. اللعنة على البنات وخلفة البنات ...
ثم نهرتها بقسوة وجرتها من يدها إلى المطبخ ..
هيا أسرعي .. فقد حان وقت قدوم أخيك من العمل .. هيئي له غذائه .. حتى لا أضطر إلى إخباره عن جلساتك .. وشرودك ليل نهار ..
_كفكفت فتاتي دمعاتها .. منصاعة لأوامر والدتها ..
آآآه يا أمي كم كنت أرغب قي أن أفصح لكِ عما في داخلي .. علك تساعديني على فهم نفسي .. اتي عجزت عن فهمها ..آآآه كم احتاجك بقربي .. في هذه الفترة .. أكثر من كل الفترات التي مضت ...
.....................
أنا حقاً لا أدري ما بي .. لقد خلقت وحيدة .. منذ صغري .. لا أصدقاء لي ... ولا أخوات .. خلقت ضعيفة خجلى من كل شيئ حتى من نفسي .. أنا الآن أشد خجلاَ من أي وقت مضى .. فساعديني .. أرجوكي .. ولكن أين أنت من كل هذا يا أمي .. أين أنت ...
............
مرت ساعة .. أو ربما أكثر بقليل .. لا أدري ..
رن جرس الباب .. فهرعت الأم مسرعة مغتبطةً وفتحت الباب لرجل البيت الكبير الصغير .. واستقبلته بأجمل الكلمات الممزوجة بالفخر والتقدير ..
_ أهلين برجال البيت .. الله يعطيك العافية ..وغيرها الكثير من العبارات الجميلة الدافئة ..
كانت فتاتي منهمكة .. بتحضير طعام الغذاء لأخيها .. وأخذت تسأل نفسها ..
.............................
_ ياترى .. لماذا لا تطري علي والدتي .. عندما أقدم شيئاً لهذا المنزل .. ؟؟ أخي يعمل خارج المنزل .. وأنا أعمل داخل أسواره .. كلانا يعمل ..ولكنه هو وحده من يحظى بالإحترام والتقدير ..
هل العمل داخل المنزل ليس له قيمة إلى هذا الحد .. إذا كان الأمر كذلك ...فلا بد لي أن أبحث عن عمل خارج هذا المنزل علني أحظى بالتقدير والإحترام ..الذي طالما كنت أبحث عنه وأحتاجه ..
.............................
بعد هذا الحوار مع الذات .. ارتسمت ابتسامة راضية على شفتيها .. لأنها ظنت بأنها أمسكت بمفتاح قلب أمها ... وقلب من حولها ... المفتاح الذي سيفتح لها أبواب الحب .. والعبارات اللطيفة الجميلة .. الحانية ... التي طالما افتقدتها ..
ولكنها لم تدرك أنها أمسكت بمفتاح جهنم ..
إلا بعد فوات الأوان ....
 

حكاية اللون الأبيض .. ذهبت إلى ذلك المقهى .. واتجهت إلى تلك الطاولة المركونة .. في إحدى جوانبه المهملة .. حيث تشبه في انزو...